لن ننسى
(3)
اللاجئون الفلسطينيون في سورية يتحدثون عن معارك 48 و آلام اللجوء
تقول الحاجة كاملة مفلح - من قرية عين غزال مواليد 1913م ، تسكن حالياً مخيم عين التل (حندرات) للاجئين الفلسطينيين في حلب :
كان والدي قاضياً ، لم يرزق بأطفالٍ إناث غيري ، و كان لديه أربعة أولاد كنت أوسطهم ، و كان ثرياً .. أما أمي فكانت وصفة في الجمال لا يوجد مثلها في كلّ فلسطين ، أما أنا فكنت أشبه والدي ، فمي صغير و عيني طفح و أنفي كبير ..
تبتسم و تضحك ثم تتابع :
سمّيت قريتنا عين غزال لاحتوائها على عين جارية تتدفق إليها المياه من جبل شرقي القرية ، و تتخذ العين شكل بركة واسعة محاطة بأحجار نقشت عليها رسومات جميلة ، و يتجاوز عمقها 1.5 متراً ، كان شباب قريتنا ينزلون فيها و يغسلوها من حين إلى آخر ، و كانت تردِها الغزلان لتشرب منها ، و تحيط بها أشجار الزيتون المتشبثة بتراب أرضها الأصفر .
الحج الأول من أرض فلسطين :
كانت الحجة الأولى الذي أقوم بها و زوجي عام 1947 ، ركبنا الحمير و البغال متوجّهين من قريتنا عين غزال إلى الميناء ، و خرج لوداعنا معظم أهالي القرية ، و بقينا مدة شهرين في البحر إلى أن وصلنا السويس ، و هناك ركبنا الباخرة التي أوصلتنا إلى جدة بعد ثلاثة أيام و لياليها ، و من جدة حملتنا السيارات إلى مكة المكرمة . و بعد إنهائنا لشعائر الحج عدنا إلى قريتنا من جديد .
الهجمات اليهودية على قريتنا
الهجوم الأول : في الهجوم الأول لليهود على قريتنا استشهدت امرأة فلسطينية واحدة من أهالي القرية و تراجع اليهود .
و في الهجوم الثاني : خطف اليهود مختار قريتنا خالد العبد الله و أخذوه من داره إلى وادي ماضي و قتلوه هناك .
الهجوم الثالث : أغلق شباب عين غزال الطريق الوحيد المؤدّي إلى قريتنا و المار من بين الجبلين المحيطين بها ، كي يمنعوا اليهود من النفاذ إلى القرية و طوّقوا القرية بحراسة محكمة ، في هذه الأثناء كان اليهود خارج قريتنا ، فأتوا لنا بطائرتين قصفتا القرية ، لا سيما الحاصل الواقع في منتصفها ، و الذي كان يرابط فيه 14 شاباً من شبابنا ، و كان الحاصل موجود أمام منزلنا الذي يتوسّط البلدة ، و رأيت الطائرة أمام عيني تقصف الشباب و «تنفضهم نفضاً» ثم ابتعدت الطائرة ، أما أنا فصرخت «يا نبي محمد .. يا الله ..» و انبطحت على بطني من شدة الضرب ، و كان ابني حمزة على يدي فوضعته على عتبة دارنا و اتجهت إلى الحاصل ، و بدأت أطفئ أجسادهم المشتعلة بالنيران ، و قلت لهم : «أنتم أخوتي بعهد الله و من يخونكم يخون الله ..» و لكن لم يردّ عليّ أحد إذ كانوا كلهم أمواتاً ، ففتشت ملابسهم علّي أجد فيها نقوداً أحملها لأسرهم و أطفالهم ، و لكني لم أجد شيئاً .
الخروج من القرية :
في هذا الوقت كانت قرى الوادي الغربي كلها قد سقطت بيد اليهود ، و لم يبقَ سوى قريتنا ، فطلب منا اليهود تسليم أنفسنا و قريتنا و الخروج منها مقابل سلامة أرواحنا ، فلم نقبل التسليم .
خرجت النسوة و الأطفال من القرية و جلسوا تحت أشجار الزيتون و بقيَ فيها الرجال و الشباب للدفاع عنها مرتكزين إلى قطعهم الطريق الوحيد المؤدّي إلى القرية ، و لكنهم فوجئوا بطائرتين تحومان فوق القرية و بدأت في قصفنا ، و لم يستطع الرجال مقاومة الطائرات بآلاتهم الخفيفة القديمة ، فخرجوا إلى الزيتون المحيط بالقرية ، و استمرت الطائرات تقصف القرية حتى ردمتها تماماً ، و لم تُبقِ على شيء فيها .
من أشجار الزيتون ذهبنا إلى عارة و عرعرة حيث بدأنا المسير بعد المغرب و وصلنا صباح اليوم التالي ، و هناك مكثنا قرابة الشهر ، و رغم فقر أهل عارة و عرعرة إلا أنهم تقلّونا و احتضنونا ، و أسكنوا كلّ عائلة منا عند عائلة منهم ، و منها انطلقنا إلى سورية ..
اللجوء في سورية :
في سورية حملتنا سيارات شحن إلى «قشة الترك» التي يرابط فيها مجموعة من العساكر ، و بعد ثلاثة أيام من مكوثنا فيها ، قسمونا على القرى المجاورة ، و كان نصيبنا قرية عزاز ، و في عزاز زارنا القائد الشيشكلي و تعرّف على زوجي الحاج خالد .. و عشنا في عزاز قرابة 6 سنوات ، و سجّلت أطفالي في مدارسها و تفوّقوا على كافة طلابها و طالباتها و الحمد لله . إذ حازت ابنتي آمنة على المرتبة الأولى بين الفتيات ، و نال ابني حمزة المرتبة الأولى بين زملائه الطلاب .
بعد عزاز انتقلنا إلى حلب في قرم الجبل و سكنّا منزلاً بالأجرة تابع لعائلة "فحلو" السورية ، و كنا كلّ 6 عائلات نسكن منزلاً كبيراً ، لقد احتضننا الشعب السوري و لم يقصّروا معنا أبداً ، حتى أن بعض العائلات استضافت عائلات فلسطينية منا ، بعدها وزّعت الدولة علينا الأراضي في هذا الجبل (جبل حندرات) إضافة إلى مبلغٍ من المال ، فحصلنا على قطعة من الأرض و بنينا منزلاً فوقها ، و كلفنا بناء المنزل آنذاك 25 ألف ليرة سورية (ما يعادل 500$) و كان ثمن كيس الإسمنت وقتها ليرتين سوريتين . كان الجبل مليئاً بالحجارة الكبيرة ، و خالٍ تماماً من النباتات و الأشجار ، في البداية تعبنا كثيراً في تعزيله و تنظيفه من الأحجار و في تسوية بعض المناطق فيه كي نتمكّن من البناء عليه .. و بعد فترة مدّت الدولة لنا مياه للشرب من نهر قويق القريب من الجبل (على بعد حوالي 3 كم) و أنشأت صنابير مياه مشتركة لأهالي المخيم ، و كنا نذهب لالتقاط العلك و الحمّيض و نبات العرقوب قرب النهر .. و بدأ وضع المخيم يتطوّر تدريجياً إلى أن وصلنا إلى هذه المرحلة ، فاليوم غطت الأشجار التي غرسناها منذ مجيئنا ظهر الجبل ، و استطعنا التغلب على صعوبة الوضع .
عملت في الماضي قابلة لتوليد النساء و كانت القرى المجاورة لنا أيضاً تطلبني لنسائها ، أما زوجي فعمل في بيع الإسمنت ، و بعد فترة أصبحت ابنتي معلمة و ابني حمزة أنهى دراسته و انتقل للعمل في الجزائر .
ما حملته الحاجة كاملة مفلح معها لدى خروجها الأخير من فلسطين
خرجت مع أطفالي السبعة أحمل بعض أواني المطبخ و هي :« طنجرة ، صينية كبة ، ملاعق ، إبريق زيت زيتون ، ..» كما اصطحبت معي حمار حملت عليه بعض الأغراض الأخرى خاصة اللحاف رغم أننا خرجنا في الصيف ، و أحضرت معي أيضاُ أوراق ملكيتنا لأراضينا و منزلنا في فلسطين . و كنت قبل فترة من خروجنا قد بعت بقرتين أملكهما ، و خبأت النقود في بيتنا ، و بعد مغادرتنا المنزل تذكرت النقود فعدت و حملتها في كيس علقته برقبتي و غادرنا .
أما ما بقيَ لديّ الآن بعد 55 عاماً من خروجنا من كل هذه الأغراض فهو : «طنجرة ، صينية كبة ، مصفاة ، مقلاة للعجة ، و صندوق أضع فيه ملابسي و أغراضي الخاصة».
سترجع فلسطين .. سترجع :
حول رغبتها في العودة و أملها فيها بعد كلّ هذه السنوات ، و رغم بلوغها العام التاسع و التسعين من عمرها تقول الحاجة كاملة : "الله أعلم بموعد العودة ، لكن العودة نفسها ستتحقّق ، سترجع فلسطين .. سترجع ، ليت العودة تكون اليوم لأذهب منذ الآن لفلسطين ، فقط ابعثوا معي من يحملني إليها ، لأرى حيفا .. عكا .. عين غزال .. و الله إني أحفظها كلها كلها" .